امرأة مجهولة في قطار
...
كنت أفكّر في موطني أثناء رحلتي بقطار ليلي عندما سمعت قائلا :
يقول المرأة الجميلة لا يجوز لها أبدا أن تسافر وحدها وحسبْت أنّ المتكلم يعنيني
فأنا امرأة جذّابة ولكنني لست جميلة ومع ذلك فإنّ هذه الملاحظة كانت أشبه
بالشّعلة اللّطيفة
إلى أن تبيّنت أنها موجهة إلى امرأة أخرى تجْلس في الجانب المقابل لمقعدي
إذ كان جمالها رائع يبهر الأبصار ويثير النشوة والخيال
فهي ذات شعر حالك وعينيْن سوداويْن واسعتين عميقتين لا يسبر غورهما
وفم يدلّ على الحزم والجرأة وربما القسوة أيضا ووجهها ناصع البياض .
وقد سافرنا من براغ بالقطار نحن الثلاثة هي وشابّ أمريكي
وأنا وقطعنا مسافات طويلة دون أن نتبادل كلمة واحدة
إذ كان كلّ منا منصرف إلى أفْكاره الخاصة في تلك الليلة والقطار يقترب بنا
من حدود تشيكوسلوفاكيا
حيث يرتفع الساتر الحديدي وفي المحطة الأخيرة
جاء راكب رابع هو الذي بدّد الصمت الطويل الذي خيّم علينا
بإبداء تلك الملاحظة "المرأة الجميلة لا يجوز لها أبدا أن تسافر وحدها" .
ولعله لم يكن يعني شيئا معيّنا عندما كرّر تلك العبارة
وقد كان رجلا طويلا أشيب الشعر تفوح منه روائح الكلونيا والثوم
والكونياك معا ويبدو أنه ناجح في حياته .
ولا أحْسب المرأة الجميلة تجاهلتْه عامدة بل لم تسمعْه فاعتبر صمتها توبيخا له
فهبّ واقفا وانحنى لها قليلا ثم انسحب إذ أدرك أنّ رفقته غير مرغوب بها
وحينئذ حوّلتْ وجهها إلى النافذة وتابعتْه بنظرها مستغربة ثم تطلعتْ إليّ متسائلة
وهنا شرحت لها ما وقع فلم يظهر عليها أي اهتمام بالحادث
وأدارت وجهها نحو النافذة ثانية .
وأنا أعرف بخبرتي أنّ على المرأة أن تتعوّد الثّناء على جمالها
وحينئذ سألني الرجل الأمريكي :
_ هل أقمت في هذه البلاد زمنا طويلا ؟
_ أقمت سنتين ونصف وكنت أعمل موظفة في السفارة البريطانية في براغ .
_ مدة طويلة جدّا كما أعتقد .
وهنا ابتسم ابتسامة عميقة بطيئة
وكان أمريكيّا صميما بقامته الطويلة
وسوء هندامه وبطء حركاته وتابع كلامه قائلا :
_ أنا اعمل في وكالة صحفية وقضيت مدة في براغ ومن الغريب أنني لم ألتق بك .
وأدركت أنه لم يكن يقصد توثيق معرفتي به إذ لاحظت عينيْه كانتا تختلسان النظر
إلى المرأة الأخرى إذ جلست في مقعدها المقابل لي .
وهنا سمعنا صوتا عميقا أشبه ما يكون بصوت غريتا جاربو قائلا :
_ هل تعرف تكساس ؟
والتفتنا نحو المرأة المجهولة وقالت بعد تردّد كأنها لم تعتدْ محادثة الغرباء :
_ إنّ لي شقيقا يقيم في تكساس .
فأجاب الأمريكي :
_ يؤْسفني أن لا أعرف تكساس فأنا من ولاية ماين
ولكن قيل لي إنّ تكساس مكان بهيج .
تدخلتُ في الحديث وسألْتها :
_ هل أنت مسافرة إلى هناك ؟
فلم تجبْ إلا بعد فترة قالت :
_ أنا مسافرة إلى نورمبرغ بألْمانيا فقط .
وغشت وجهها سحابة والتفتتْ نحو النافذة مرة أخرى
وظننت أنها ألْمانية أو نمساوية ولم أفكّرْ أنها تشيكية
إذ ليس من عادة التْشيك مغادرة بلادهم لقضاء إجازات .
وقضيت بعض الوقت أتحدث مع الأمريكي لكننا كنا دائما نلتفت إليها
بين الحين والآخر كانت تلْبس فستانا أسود اللون من قماش رخيص
وتفصيله غير متقن يوحي بأنها من جمهرة الشعب التشيكي الفقير النظيف
ومع ذلك كانت تلبس عقْدا من اللّؤلؤ في عنقها وتلبس في إصبعها خاتم
له فصّ ظننته من الياقوت كان لونه الأحمر ينعكس على جلدها الناصع البياض .
استمر القطار في سيْره ولم يبق بيننا وبين الحدود إلا القليل
فسأل الأمريكي : أين نحن الآن ؟
فأجابته هي :
_ على مقْربة من قرية سنكا .
_ إذن لا بدّ أن تكون قطعتْ هذه الطريق عدة مرات فعرفتْ معالمها
حتى في تلك الليلة المظلمة .
فتحتُ لفافة من الورق وأخرجتُ ما فيها من قطع السندويتش
وجاء الأمريكي بما معه من الطعام وقدّم لي فخْذ دجاجة ودعا المرأة المجهولة
أن تأخذ شيئا من طعامه فقالت :
_ إنني غير جائعة .
وعندما ندمت على عدم إحضار قهوة معي رأيت الأمريكي يحضر زجاجة
توضع في الجيب عادة وقال لي :
_ أظنّ أنه لا خطر من اطلاعكِ على هذا الأمر البسيط .
وكان وقتئذ يدير زنبركا في أسفل الزجاجة فانفتحت وبرز منها شيء ملفوف
بقطعة من الورق الناعم ولما أزال الغطاء ظهر في كفّه تمثال صغير من العاج
لامرأة رائعة الحسْن ولن أنسى ما حييت براعة الذي صنعه
قبل مئات السنين فقد أضفى عليه كل ما يخالج النفس الإنسانية
من شعور بالجمال من حيث التناسق بين أعضاء الجسد إلى الدّعة في الوجه
وإلى البراعة في نحْت الثياب المنسدلة حتى القدميْن الدقيقتين
وما لبثْت أن رأيت ظلّا يغطي ذلك التمثال فقد وقفتْ المرأة مادة يدها فقدّمه لها
دون أن ينطق بكلمة فاحتفظت به في راحة يدها وعلتْ شفتيها ابتسامة راضية
زاهية وتوقعت وأنا أنظر إليه أنه ينوي إعطاءها إياه ولما ردّته إليه قالت :
_ إنهم لا يحبّون خروج مثل هذه التّحف من البلاد إذ أنهم يعتزّون ببقائها لديهم .
_ اشتريتها من مالكها باتفاق تامّ وبمبلغ يفوق ما أطيق .
_ وهل أنت جامع تحف ؟
_ كلا ، إني في الحقيقة لا أعرف شيئا عنها ولا أدري السبب الذي حملني
على شراء هذا التمثال لكني لم أستطعْ مغالبة الرغبة في إخراجه من هذه البلاد .
_ وهل هو غالي الثمن حتى يستحقّ هذه المغامرة ؟
_ أجل ، فقد عشت طويلا هنا وملأتْ هذه الإقامة قلبي غضبا فرأيت من الضروري
أن أقوم بعمل يزول به ذلك الغضب .
أمسكتْ التمثال ثانية بيدها ونظرتْ إليه مليّا ثم قالت :
_ أرني كيف يتحرك الزنبرك فتنفتح فجوة الزجاجة أو تنغلق .
ووصلنا إلى المحطة الواقعة على الحدود وكنا في آخر عربة ملحقة بالقطار
ولذلك كان علينا أن ننتظر ساعات وفي النهاية جاء موظفو الجمارك
يرافقهم جنديّ مسلّح وفي عيونهم بريق الشّك والريبة من كلّ إنسان
وفحصوا جواز سفر الأمريكي وأمتعته ولما اتجهوا نحوي تكلمت المرأة المجهولة
بلهجة حادة آمرة وبلغة أعرفها جيداّ فنظرت إلى وجهها
فإذا به أشبه بحجر صخري فعادوا إلى أمتعة الأمريكي وأخذوا الزجاجة منه
ودلّتهم على طريقة فتحها وأخبرتهم بثمن التمثال المخبّأ فيها
واستصحبوا الأمريكي معهم وذهبوا .
وجلستْ صامتت ويديها في حجْرها وأردتُ أن أصرخ فيها وأنْ أسألها
عن عدد الرحلات التي قامت بها وعن الأجر الذي تتلقاه
لقاء هذه الوشايات ولكن ما الفائدة ؟
أعدت أمْتعتي إلى حقائبي وبعد ربع ساعة عاد الأمريكي فهبّت من مقعدها
وغادرت المكان .
وبعد قليل اجتزنا الحدود وكان وجه الأمريكي شديد التجهم وكأنما شاخ في لحظات
قلتُ : هل أخذوا التمثال ؟
_ نعم ، ورفضوا أن يردّوا لي الثمن الذي دفعته ومع ذلك لم أهتم بالمال
يا الله ما أشدّ مقتي لهم ولنظامهم الذي يجعل من امرأة كهذه جاسوسة .
ووضع يديْه فوق عينيْه وأدركت أنه يبكي .
ذهبت وحدي إلى عربة المطعم لأتناول طعاما خفيفا مع أني لم أكن أشعر بالجوع
وبينما كنت أحتسي قهوتي رأيت ظلّها
ظلّ المرأة المجهولة فوق المنضدة مادة يدها كما وقفتْ عندما أعطاها الأمريكي
التمثال لكنها في هذه المرة وضعت العقْد والخاتم في راحة يدها قالت :
_ هل تتفضلين بأعطاء هذين إلى الأمريكي عندما يغادر القطار في نورمبرغ
إنهما كل ما أملك وثمنهما أغلى من ثمن تمثاله .
ورأيتُ بعض الموظفين الألْمان ينظرون إليها بفضول وغمرتني الدهشة
من وجودها وفعلها واستمرّتْ تقول :
_ كان من الضروري أن أحوّل أذهان رجال الحدود عني ففي ذلك آخر أمل
لي في النجاة وبالفعل اهتموا بالأمريكي وأيقنوا بولائي وغفلوا عني .
فأنا وجدت لديّ بقية من الشجاعة لركوب هذا القطار
إذ لم يكن لديّ جواز سفر يبيح لي مغادرة البلاد .
_ فإذا لم يكنْ هناك ما تخْسرين غامرتِ بكل شيء ماذا سيحّل بك الآن ؟
_ سأطلب اعتباري لاجئة سياسية ولي أصدقاء في نورمبرغ
سيبذلون جهده لتحقيق هذه الغاية .
وهنا أشار لها أحد الموظفين الألْمان فقالت لي قبل أن تتجه إليه :
_ أخبري الأمريكي أني كنت أحوج إلى مغادرة تشيكوسلوفاكيا
أكثر من التمثال . .
تمت..."